د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
كيف القصاص يوم القيامة؟ وأين يكون؟
من أسوأ الأمور التي يُضَيِّع بها العبد نفسه يوم القيامة وقوعه في جريمة ظلم الناس، روى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا.."[1].
الظلم ثلاثة أنواع:
روى البزار وأبو داود الطيالسي عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وظلم يغفره الله، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ، وَقال اللَّهُ {إِنَّ الشرك لظلم عظيم}، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ لأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يَدِينَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ"[2].
العباد لا يملكون يوم القيامة إلا حسنات وسيئات: روى البخاري عَنْ أَبِي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»[3].
أولًا: الدماء:
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (ابن مسعود) رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ»[4].
وروى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "يَجِيءُ المَقْتُولُ بِالقَاتِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا[5]، يَقُولُ: يَا رَبِّ، قَتَلَنِي هَذَا، حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ العَرْشِ[6]".
ثانيًا: الديون:
روى ابن ماجه وأحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ»[7].
ثالثًا: الأخطاء التي بين الناس، وفيها ضرب، وقذف، وإهانة:
روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ ل، أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ». قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] الآيَةَ ". فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَهُمْ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ[8].
هنا لا تُناقَش فقط مسألة من الظالم ومن المظلوم، ولكن أيضًا تُناقَش مسألة ردِّ المظلوم على الظالم في الدنيا؛ هل كان ردُّه مساويًا للظلم، أم اقل منه، أم زائدًا عليه.
هذا يشمل الأولاد والزوجة، ويشمل الجيران والأصحاب وشركاء العمل، ويشمل الحاكم والمحكوم، ويشمل من لا تعرفهم من الناس ووقعت في حقهم، ويشمل أيضًا ذنوب الغيبة، وهي لا تكون بحضرة المغتاب.
روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ»؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[9].
أين يكون القصاص؟
في أرض المحشر بين المؤمنين الذين سيدخلون الجنة، والمسلمين الذين سيدخلون النار، أما إذا كان الظالم والمظلوم من أهل الجنة، وكلاهما سيعبر الصراط دون سقوط في جهنم، فهؤلاء يحدث القصاص بينهم على قنطرة بعد الانتهاء من الصراط:
روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا"[10].
فليعلم كلُّ من تعامل مع الناس أنه مراقب، وأن هناك من يحصي أعماله عليه، وأن العفو والصفح يعود بالخير عليك أولًا؛ لأن على الأقل يحفظ لك حسناتك، فضلًا عن أجر الخلق الحسن؛ وقد روى الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ»[11][12].
[1] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2577).
[2] مسند البزار (6493)، مسند أبي داود الطيالسي (2223)
[3] البخاري: كتاب المظالم، باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته (2317).
[4] البخاري: كتاب الديات (6471).
[5] بِيَدِهِ: أي بيد القاتل، أَوْدَاجُهُ: عروق العنق، تَشْخَبُ: تسيل.
[6] الترمذي: (3029)، قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عمرو بن دينار عن ابن عباس نحوه ولم يرفعه، وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: الألباني: صحيح الجامع الصغير وزيادته (8029).
[7] ابن ماجه: كتاب الصدقات، باب التشديد في الدين (2414)، وقال: في الزوائد في إسناده محمد بن ثعلبة بن سواء قال فيه أبو حاتم أدركته ولم أكتب عنه ولم أر لغيره من ألأئمة فيه كلاما غيره. وباقي الإسناد ثقات على شرط مسلم
[ ش - ( قضى الله من حسناته ) أي أخذ من حسناته ويعطي الدائن في مقابلة دينه ]. وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر الألبان: صحيح الجامع الصغير وزيادته (6543).
[8] الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة الأنبياء عليهم السلام (3165)، وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان وقد روى ابن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
[9] الترمذي (2418)، وقال هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح.
[10] البخاري: كتاب المظالم، باب قصاص المظالم (2308).
[11] الترمذي (2003) وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه، قال الشيخ الألباني: صحيح.
[12] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك